بقلم جيل ديكل.
كان ناتان هوفشى رجل ذو رؤية . كان نباتيا ومزارعا عضويا من اوائل المنادين بالسلمية فى إسرائيل فى العشرينيات .
من خلال قرائاته وكتاباته ومن خلال التحدث إلى أولاده معارفه نكتشف حالة غير عادية: كان هوفشى صهيونبا (أى كان يؤمن بأن إسرائيل هى أرض اليهود)، عايش الحروب التى شنت على إسرائيل إلا أنه كان ينادى بالسلم واللاعسكرية ، فكيف توائمت رؤيته اللاعسكرية مع إيمانه بالصهيونية فى فترات الحرب بين اليهود والعرب على أرض واحدة ؟
من الواضح أن هوفشى كان مفكرا . تعلم عدد من اللغات أثناء نشأته فى بولندا: العبرية ، البولندية ، الألمانية واليديشية ثم تعلم الإنجليزية والعربية بعد هجرته إلى إسرائيل وقيل أنه كان ناصحا ومعلما لموشى دايان .[1] (كان جاره فى نهالال أول مستوطنة تعاونية فى إسرائيل). كان هوفشى يعمل باحدى المزارع أثتاء النهار وكان يستيقظ فى الثالثة صباحا لممارسة القراءة والكتابة . [2]
تعرض هوفشى لإنتقاد شديد بسبب كتاباته المناهضة لأعمال العنف التى كان يرتكبها بعض اليهود ضد العرب لكنه كان يعلم بل كتب أيضا عن اعمال العنف التى كان يرتكبها بعض العرب ضد اليهود .[3] تكشف دراسة وافية لأعماله أنه كان يؤمن بفكرة إنسانية، حل بديل يمنع إراقة الدماء . كان يرى أن الفرصة متوافرة لتعزيز السلام من خلال العملية التعليمية فى المدارس . تطبيق ذلك سيستغرق بعض الوقت لكنه فى النهاية يضع أسس للسلام والرخاء والأمن دون داع للأذى وإعلان الحروب .
ولد هوفشى عام 1889 بمدينة وولبروم فى بولندا (على مقربة من الحدود الألمانية) وتلقى تعليمه بمدرسة يهودية . لم يلاقى إنبهاره بالصهيونية تأييد زملائه فى وولبروم فقد كان ذلك يعد من الممنوعات وكان الإعتقاد السائد هو أنه لا يجب على اليهود الهجرة إلى إسرائيل قبل قدوم المسيح المنتظر (المخلص) الذى سيقودهم إلى هناك . اضطر هوفشى لقراءة الصحف الصهيونية وكتب التعليم العصرى فى الخفاء . تحدى هوفشى العوائق وتمسك بحلمه للتعلم والهجرة بالرغم من تيسرحالته المادية فى يولندا [4] . لكن هوفشى لم يحلم فحسب بل قام بتنظيم مجموعات صغيرة ولقاءت فى الخفاء تضم عدد من إصدقائه للدراسة والتخطيط للهجرة .
عندما هاجر أخيرا فى العشرين من عمره عام 1909 , كان فى إستقباله بميناء يافا أحد المسئولين وقد اصطحبه إلى فندق خايم- باروش بشارع تيف- شالوم . هناك سأله بعض المتشككين عما إذا كان لديه نقود متبقية فى جيبه وإذا كان الأمر كذلك فأن عليه العودة على أول باخرة إلى روسيا وعدم البقاء فى إسرائيل حيث الفقر الأشغال الشاقة والبطالة . فى تلك الأثناء قدم له أحدهم حفنة من الكروم وتسائل هوفشى، كيف يفكر هؤلاء فى ترك بلد ينتج مثل هذه الفواكة الرائعة ؟
رأى هوفشى أن المجتمع اليهودى بدأ يفقد هويته عندما خرج بحثا عند الخدمات ووئاسل الراحة وسداد أثمانها بالسندات والفوائد والضمانات البنكية بدلا من العمل والإنتاج . كان قوله أن أى شخص يستطيع العيش مكتفيا بما ينتج أو مما تنتج الأرض بدلا من الإعتماد على القروض البنكية . “نحن بحاجة إلى شركة منتجة حقيقية وليس شركة محدودة …” ، هكذا كتب عام 1973 .[5]
حسب فلسفته (التى كان يطبقها فى حياته الخاصة) , فإن الفرد ومسئوليته تجاه أفعاله هو الأداة التى تجلب السلم والرخاء . لسلم والرخاء يلغيان بالضرورة الحاجة إلى الحرب . أوضح هوفشى أن الفرد عليه مراقبه ذاته وإتباع قاعة واحدة بسيطة اعتنقهل الحكيم هيليل: “لاتفرض على الآخرين ما لا تبغاه لنفسك.”
لكن كيف تمكن هذه القاعدة من تعايش فلسفة السلم جنيا إلى جتب مع الصهيونية ؟
السلمية والاعسكرية فى نظر هوفشى ليسا ضعفا أ إستسلام أعمى لعنف من قبل الآخرين . ترتكز فلسفة السلمية على مبدأ “لا تفرض على الآخرين ما لا تختاره لنفسك” فهذا أسلوب حياة يقود المجتمعات إلى النجاح على أسس الإحترام المتبادل واإنصات والفهم . قبول الآخر ورفض نزعة السيطرة والإحتلال يلغى الخوف بين البشر وبالتالى لن يخاف أحد من الآخر ولن تسعى أى دولة لإيذاء أخرى وستمنع الحروب .
يشرح هوفشى فلسفته بطرح سؤال : كيف يذهب العمال الأبرياء فى تشيكوسلوفاكيا إلى مصنع سكودا يوما تلو الآخر , ذلك المصنع الذى ينتج الأسلحة , معتقدين أنه مجرد عمل معتاد يوفر لهم دخلا ؟ بل عم يعملون فى مشروع حربى وأدوات القتل التى تننج به تؤدى إلى حروب وكوارث قد تضر الشعب التشيكى ذاته ، وقد حدث ذلك بالفعل أثناء الحرب العالمية الثانية . [6]
إذا سأل الفرد نفسه هل أفعاله تدعم الحرب أو تبلى لآخرين بما يكرهه لنفسه , من ثم تأتى الفلسفة السلمية التى اعتنقها هوفشى: منع الظروف التى تؤدى إلى الحرب . أى أننا نستطيع منع الحروب بالإعتراف بحقوق جميع البشر الموجودين على هذه الأرض . نشر السلام يتطلب مدارس تعلم مبدأ “لا تبلى جارك بما تكرهه لنفسك” من خلال جميع المواد التى تدرس ( التاريخ , الفلسفة , الرياضيات , العلوم والفنون) .
“بدلا من تاربخ يسجل مجازرمتبادلة بين الأخوة تسمى حروبا , بدلا من تقديم المجد والشهرة لأبطال تلك المجازر فى كتب التاريخ التى تسمم عقول أطفالنا ـ نأمل أن نرى كتبا تدين القتل الجماعى فى الماض وفى الحاضر…” [7]
يجب أن نكف عن تخويف أطفالنا من الدول الأخرى وأن نطور نظاما سلميا خال من الخوف والترهيب . لن تحدث هذه العملية بين يوم وليلة فهى عملية طويلة شاقة تتطلب نظاما تعليميا يحث على الإحترام . لقد خلق البشر أجمعون فى صورة الرب وبالتالى فأن الحروب مجازر دموية لا تحقق أبدا الإنتصارات . تمجيد الإنتصارات العسكرية إنما عدم بصيرة تسببها أعمدة الدخان الكثيفة الناتجة عن الحروب فهى تحجب رؤية البشر . وقد أدى ذلك إلى عدم رؤيتنا لمكانة أخواننا البشر كجزء من الأسرة العالمية البشرية ، ومن ثم تهيأ الظروف لنشوب حرب جديدة .
يقترح هوفشى أن نعلم أبنائنا أن أراض هذا الكوكب تسع لجميع البشر وأننا نستطيع التعايش معا على نفس الأرض ولما أن الموارد تكفينا جميعا فلا داع للأخذ من الآخرين . بناء على ذلك , لن يسعى البشر إلى أيذاء الآخرين ولن تتآمر الدول لإحتلال جيرانها . [8]
لكن ماذا لو كان الواقع أن الدولة تواجه أعداء بالفعل يسعون لإيذائها فى عالم يكون فيه “البقاء للأقوى” ؟
بالفعل , كان الشباب بأتون إلى هوفشى أثتاء الحرب العالمية الثانية طالبين مشورته بخصوص إتضمامهم إلى القوات المحاربة . كتب هوفشى أنه لم ينصحهم أبدا بعدم فعل ذلك بل كان يخبرهم أن مجرد سؤالهم يعنى تشككهم فى أنهم سلميين وبالتالى عليهم الإنضمام إلى الجيش . “لم أنصح حتى شخص واحد بألا يفعل ذلك . كنت أقول فقط : ما دمت تسأل فمن الأفضل أن تنضم… ” [9] يبدو أن هوفشى جنب الخيار الصعب بين أن يكون مسالما و صهيونيا يستدعى لحماية وطنه فى وقت الحرب . كان قد تقدم فى السن فى الأربعينيات ولم يستدعى للخدمة العسكرية.
جدير بالذكر أنه عندما هاجر إلى إسرائيل بداية ، عمل هوفشى كحارسا يبعض القرى وكان فى تلك الفترة يحمل سلاحا . فى عام 1912 بقرية “جان – شمويل” شعر هوفشى “وكأننى على علاقة وثيقة مع الناجانت (بندقية روسية) التى كانت متأهبة دائما لإطلاق النار , لكن فى أعماقى لم تتوقف الأفكار! ألا يمكن أيجاد وسيلة أخرى؟ هل يجب أن يظل السيف أبدا هو ممهد الطريق؟…” [10]
أدرك أن العنف يؤدى إلى شىء واحد ـ مزيد من العنف وأن ذلك لن يقود أمتين إلى نهضة متبادلة تحترم حق الشعب اليهودى فى إسرائيل وهو حق عمره الفى عاما ، وحق العرب المقيمين على نفس الأرض منذ 1300 عاما . شرح هوفشى أن الأرض والموارد تكفيان الجميع واقترح تحويل الصناعات الحربية إلى صناعات زراعية . طرحت أفكار شبيهة فيما بعد من قبل “باربرا ماركس هابرد” و”نيلى دوتالد والش” .
استند هوفشى إلى أقوال غاندى الذى صرح بأن العنف هو سلاح الضعفاء [11] لكنه بالرغم من ذلك لم يتجاهل الصراع القائم . قال هوفشى أن المرء إذا أضطر لحمل السلاح ، فعليه ان يفعل ذلك بحزن بالغ وليس بسرور أو تمجيد للعنف والحرب . هناك فرق جوهرى بين التحريض على الحرب والأسف على حتمية خوضها .
المصادر (بالعبرية) :
[1] יששכר, חדווה. (אין תאריך). תמליל רשת א’ תוכנית: בדיבור ישיר. (שודר 24 פברואר 2004). פורסם באתר הוצאת ספרים ע”ש י”ל מאגנס. נדלה ביום 23 יולי 2012.
[2] בן דרור, לאה, ודקל, גיל. (2012). ראיון עם לאה בן-דרור, ביתו של נתן חפשי. מראיין: גיל, נינו של נתן. נדלה ביום 23 יולי 2012.
[3] חפשי, נתן. (1965). בלב ונפש: במאבק על עם ואדם. הוצאת ידידים, תל-אביב. עמוד 174. נדלה ביום 23 יולי 2012.
[4] אנגלשטיין, יחיאל מאיר. ‘מאורעות ואירועים’ מתוך גשורי (בוקנר), מאיר שמעוני (עורך). 1962. וולברום עירנו. הוצאת ארגון יוצאי וואלבראם בישראל: תל-אביב. עמוד 252. נדלה ביום 23 יולי 2012.
[5] חפשי, נתן. (1965). בלב ונפש: במאבק על עם ואדם. הוצאת ידידים, תל-אביב. עמוד 76. נדלה ביום 23 יולי 2012.
[6] שָׁם, עמוד 76. ראו גם עמוד 274.
[7] שָׁם, עמוד 329.
[8] שָׁם, עמוד 288.
[9] שָׁם, עמוד 219.
[10] שָׁם, עמוד 35.
[11] שָׁם, עמוד 251.
© جيل ديكل.
8 Aug 2012.